حول التمايل والوجد في حلقات الذكر عند الصوفية
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله،
أما بعد فهذه أهمُّ الأدلّة على جواز التواجد والرقص أثناء ذكر الله.
1- قال الله تعالى: “يَذْكُرونَ اللهَ قيامًا وقُعُودًا” [آل عمران: 191]، و قد قال العلامة الألوسي في تفسيره لهذه الآية: “وعليه فيُحمل ما حُكي عن ابن عمر رضي الله عنهما وعروة بن الزبير وجماعة رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المُصَلَّى، فجعلوا يذكرون الله تعالى، فقال بعضهم: أمَا قال الله تعالى:”يذكرون الله قياماً وقعوداً“؟ فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم، على أنّ مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها”.
2- نظر النبي صلى الله عليه وسلم وسيدتنا عائشة رضي الله عنها الى الحبشة وهم يرقصون في المسجد . أخرجه البخاري (949) ومسلم (2062) و أحمد (3/152) وابن حبان (5870) وإسناده صحيح، ولم يكن الحبشة يرقصون رقصا عاديا، بل كان يمدحون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون بلغتهم “محمد عبد صالح”. وأخرج الحافظ المقدسي برجال الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: “كانت الحبشة يرقصون بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ويقولون بكلام لهم: محمد عبد صالح، فقال (صلى الله عليه وسلم):”ماذا يقولون ؟ “فقيل: إنهم يقولون:”محمد عبد صالح"، فلما رآهم في تلك الحالة لم ينكر عليهم، وأقرهم على ذلك، والمعلوم أن الأحكام الشرعية تؤخذ من قوله (صلى الله عليه وسلم) وفعله وتقريره، فلما أقرهم على فعلهم ولم ينكر عليهم تبين أن هذا جائز. وفي الحديث دليل على صحة الجمع بين الاهتزاز المباح ومدحِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأن الاهتزاز بالذكر لا يُسمى رقصاً محرماً، بل هو جائز.
3- قول النبي صلى الله عليه وسلم: “أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا انه مجنون”، أخرجه أحمد (3/68 ) والحاكم ( 1/499) وصححه.
4- قول سيدتنا عائشة رضي الله عنها:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه . فيجب أن نذكر الله تعالى في كل أحياننا حتى في الحركة وفي الرقص، إذ لم يردْ ما يخصصه بغير حالة الحركة. 5- وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنشَد عنده الشعر فيستحسنُ بعضَه ، فقد ذكر بعض الحفاظ أن بعض الصحابة أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت يقول عقب كل بيت هيه يعني يستحسنه ، فيزيده من ذلك.
6- وثب سيدنا أبو بكر وهو يقرأ “سيهزم الجمع ويولون الدبر” وكان هذا في يوم بدر حين أخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له : “ألححت على ربك” ثم خرج وهو يفعل ذلك يثب ويقول “سيهزم الجمع ويولون الدبر” أخرجه البخاري ( 3953 ) وأحمد (1/329 ) وفي تفسير ابن كثير (2/266).
7- وقد ذكر في مسند أحمد عن علي كرم الله وجهه قال:“أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجعفر وزيد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد :”أنت مولاي، فحجَلَ . فقال لجعفر : “أنت أشبهتَ خَلقي وخُلقي” فحجل ، ثم قال لي : “أنت مني”، فحجلتُ . والحجْلُ هو رفع رجلٍ ومشي على الأخرى وهو من نتائج التواجد كما ذكر ذلك الشيخ محمد أمين الكردي في تنوير القلوب. قال الكتاني :“والحجل بحاء فجيم فلام رقص على هيئة مخصوصة”.
8- حجل زيد بن حارثة عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم “أنت أخونا ومولانا”وهذا الحديث في فعل الصحابة رضي الله عنهم أخرجه أحمد (1/108) و (1/98)
9- قال أبو أراكة: “صلّيتُ مع علي بن أبي طالب صلاة الفجر، فلما انفتل عن يمينه مكث كأنَّ عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قَيْدَ رمح صلى ركعتين، ثم قلب يده فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)، فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون صُفراً شعثاً غبراً، بين أيديهم كأمثال رُكَب المَعْزى، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا [أي تحركوا] كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تَنْبَلَّ ـ والله ـ ثيابُهم. ويهمنا من عبارة الإمام علي رضي الله عنه قوله:”مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح"، فإنك تجده صريحاً في الاهتزاز. و روى مثله أبو نعيم وابن عساكر وابن كثير.
--------------------------------------------------------------------------------
10- الامام أحمد حيث قيل له عن الصوفية :“إنهم يستحيون ويتواجدون، قال دعهم يفرحوا مع الله ساعة”
11- روي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال :
سهري لتنقيحِ العلومِ ألذ لي من *** وصلِ غانيةٍ وطيبِ عنـــاقِ
وصريرُ أقلامي على صفحاتها *** أحلى من الذوكاءِ والعشـاقِ
وألذ من نقرِ الفتاةِ لدُفها نقـــري *** لألقي الرملَ عن أوراقـــي
وتمايلي طرباً لحلِ عويــةٍ في *** الدرس أشهى من مدامة ساقِ
وأبيتُ سهرانَ الدجى وتبـــيتُه *** نوماً وتبغي بعد ذاك لــحاقي
فقد أتى في الشرح : قوله ( وتمايلي: التمايل : الترنح في سرور وغبطة . والطرب : هِزَّةٌ تصيب الإنسان لشدة حزن أو سرور، وقد يخص بالسرور، وحلول الفرح وذهاب الحزن.
12- وقد أشار الشيخ أبو مدين الغوث رضي الله عنه إلى شيء من ذلك حيث قال :
فقل للذي ينهى عن الوجـــدِ أهلَــه *** اذا لم تذق معنى شراب الهوى دعنــا
إذا اهتزتِ الأرواحُ شوقاً إلى اللقــا *** تراقصتِ الأشباحُ يا جاهلَ المعنـــى
أما تنظرُ الطيرَ المقفصَ يا فــــتى *** إذا ذكَرَ الأوطانَ حنّ إلى المغنــــــى
يفرّجُ بالتغريدِ ما بـــــــــفؤادِه *** فتضطربُ الأعضاءُ في الحسِ والمعنى
ويرقصُ في الأقفاصِ شوقاً إلى اللقا *** ويطرب أربابَ العقولِ إذا غنّــــــى
كذلك أرواحُ المحبين يا فتـــــــى *** تهزْهِزُها الأشواقُ للعالمِ الأسنــــى
أنلزِمُها بالصبرِ وهي مَشُـــوقةٌ *** وهل يستطيع الصبرَ مَن شاهدَ المعنــى
فيا حاديَ العشاقِ قم واحدُ قائمـــــــاً *** ودندِنْ لنا باسمِ الحبيبِ وروِّحنـــــــا
وصن سرَنا في سُكرنا عن حسودنا *** وإن أنكرَتْ عيناكَ شيئاً فسامحنـــا
شرِبْنا طرِبنا ثم هِمْنا صبابـــــــــــت *** فبالله يا خاليَ الحشا لا تعنِفنــــــــا
13- وقال الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام رضي الله عنه:
ما في التواجدِ إن حققتَ من حـــــرجٍ *** ولا التمايلِ إن أخلصتَ من باسِ
إن السماعَ صفاء نور صــــــــفوتهِ *** يــخفى ويُحجَبُ عمن قلبهُ قاسي
نورٌ لمن قلبُه بالنورِ منـــــــــرِحٌ *** نارٌ لمن صدرُه ناووسُ وسواسِ
راحٌ وأكْؤُسُها الأرواحُ فهي على قدرِ *** الكــؤوسِ تريك الصفوَ في الكاسِ
حادٍ يذكّرُكَ العهدَ القـــــــديمَ وإن *** تقادم العهد ما المشتاقُ كالنـاسي
فليس عارٌ إذا غنّى له طـــــــرباً *** يئنُ بالناس لا يخشى من النــــاسِ
14- وسئل سيدنا الجنيد: إن أقواماً يتواجدون ويتمايلون؟ فقال: دعوهم مع الله تعالى يفرحون، فإنهم قوم قطعت الطريق أكبادهم، ومزق النصب فؤادهم، وضاقوا ذرعاً فلا حرج عليهم إذا تنفسوا مداواة لحالهم، ولو ذقتَ مذاقهم عذرتهم، وقد روي أنَّ بعض أهل الكتاب دخلوا الإسلام لأنه ذكر في كتبهم أن التواجد صفة بعض صالحي أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكان هذا في زمن الجنيد.
15- قال الامام ابن عابدين في رسالته “شفاء العليل”، (…) الرخصة فيما ذكر من الأوضاع، عند الذكر والسماع للعارفين الصارفين أوقاتهم إلى أحسن الأعمال، السالكين المالكين لضبط أنفسهم عن قبائح الأحوال، فهم لا يستمعون إلا من الإله، ولا يشتاقون إلا له، إن ذكروه ناحوا، وإن شكروه باحوا، وإن وجدوه صاحوا، وإن شهدوه استراحوا، وإن سرحوا في حضرات قربه ساحوا، إذا غلب عليهم الوجد بغلباته، وشربوا من موارد إرادته، فمنهم من طرقته طوارق الهيبة فَخَرَّ وذاب، ومنهم من برقت له بوارق اللطف فتحرك وطاب، ومنهم من طلع عليهم الحِبُّ من مطلع القرب فسكر وغاب، هذا ما عنَّ لي في الجواب، والله أعلم بالصواب.
ثم قال أيضاً: "ولا كلام لنا مع من اقتدى بهم، وذاق من مشربهم، ووجد من نفسه الشوق والهيام في ذات الملك العلام، بل كلامنا مع هؤلاء العوام…). من هذا نرى أن ابن عابدين رحمه الله تعالى يبيح التواجد والحركة في الذكر، وأن الفتوى عنده الجواز، وأن النصوص المانعة التي ساقها في حاشيته المشهورة في الجزء الثالث تُحمل على ما إذا كانت في حِلَق الذكر منكرات: من آلات اللهو والغناء، والضرب بالقضيب، والاجتماع مع المرد الحسان، وإنزال المعاني على أوصافهم، والتغزل بهم، وما إلى ذلك من المخالفات. ----- 16- الشيخ عبد الغني النابلسي وقد استدل رحمه الله بالحديث في إحدى رسائله على ندب الاهتزاز بالذكر، وقال: هذا صريح بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحركون حركة شديدة في الذكر. على أن الرجل غير مؤاخذ حين يتحرك ويقوم ويقعد على أي نوع كان حيث إنه لم يأت بمعصية ولم يقصدها.
17- أحمد زيني دحلان (مفتي السادة الشافعية بمكة المكرمة) رحمه الله يورد في كتابه المشهور في السيرة النبوية مشهداً من إحدى حالاتهم، ويعلق عليه فيقول: “وبعد فتح خيبر قدم من الحبشة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من المسلمين وهم ستة عشر رجلاً فتلقى النبي (صلى الله عليه وسلم) جعفر وقبَّل جبهته وعانقه وقام له ـ وقد قام لصفوان بن أُمية لما قدم عليه، ولعدي بن حاتم رضي الله عنهما ـ ثم قال (صلى الله عليه وسلم:”ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟“وقال صلى الله عليه وسلم لجعفر:”أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي"، فرقص رضي الله عنه من لذة هذا الخطاب، فلم ينكر عليه (صلى الله عليه وسلم) رقصه، وجُعل ذلك أصلاً لرقص الصوفية عندما يجدون من لذة المواجيد في مجالس الذكر والسماع.
18- يقول سيدي الشيخ عبد القادر عيسى الحسيني قدس الله روحه : كتاب حقائق عن التصوف:“الحركة في الذكر أمر مستحسن، لأنها تنشط الجسم لعبادة الذكر وهي جائزة شرعاً (…) فإذا كان التواجد جائزاً شرعاً ولا حرج فيه كما نص عليه الفقهاء، فالوجد من باب أْولى. وما وَجْدُ الصوفية وتواجدهم إلا قبس مما كان عليه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم.(…)”يُفهم مما سبق أن الحركة في الذكر مباحة شرعاً، هذا بالإضافة إلى أن الأمر بالذكر مطلق يشمل جميع الأحوال؛ فمن ذكر الله تعالى قاعداً أو قائماً، جالساً أو ماشياً، متحركاً أو ساكناً… فقد قام بالمطلوب ونفَّذَ الأمر الإلهي.فالذي يدَّعي تحريم الحركة في الذكر أو كراهتها هو المطالَب بالدليل، لأنه يخصص بعض الحالات المطلقة دون بعض بحكم خاص. وعلى كلٌّ، فإنَّ غاية المسلم في دخوله حلقات الأذكار قيامه بعبادة الذكر، وإن الحركة في ذلك ليست شرطاً، ولكنها وسيلة للنشاط في تلك العبادة وَتَشبُّهٌ بأهل الوجد إن صحت النية."
19- أجاب العلاَّمة ابن كمال باشا لمَّا استفتي عن ذلك حيث قال: ما في التواجد إن حققتَ من حرج *** ولا التمايل إن أخلصتَ من بــاس
فقمتَ تسعى على رِجْلٍ وَحُـقَّ لمن *** دعاه مولاه أن يسـعى على الرأس
20- الإمام خير الدين الرملي 21- الامام جلال الدين السيوطي 22- شيخ الاسلام سراج الدين البلقيني 23- ابن القيم الجوزية 24-العلامة محمد السفاريني الحنبلي 25-الشيخ محمد سعيد البرهاني 26- برهان الدين الأنباسي 27- السيد الكبير أحمد الرفاعي 28- الامام السنوني 29- الامام الكتاني 30-العلامة ابن حجر
من مراجعة هذه الأقوال، يثبت أن حكم “الحضرة” مباحٌ، وليس بواجب أو منهي عنه والله أعلم.